فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وجملة {تلك الجنّة} مستأنفة ابتدائية.
واسم الإشارة لزيادة التمييز تنويهًا بشأنها وأجريت عليها الصفة بالموصول وصلته تنويهًا بالمتقين وأنهم أهل الجنة كما قال تعالى: {أعدت للمتقين} [آل عمران: 133].
و{نورث} نجعل وارثًا، أي نعطي الإرث. وحقيقة الإرث: انتقال مال القريب إلى قريبه بعد موته لأنّه أولى الناس بماله فهو انتقال مقيّد بحالة. واستعير هنا للعطيّة المدّخرة لمعطاها، تشبيهًا بمال المَوروث الذي يصير إلى وارثه آخر الأمر.
وقرأ الجمور {نورث} بسكون الواو بعد الضمة وتخفيف الراء، وقرأه رويس عن يعقوب: نوَرّث بفتح الواو تشديد الراء من وَرّثه المضاعف.
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} موقع هذه الآية هنا غريب.
فقال جمهور المفسرين: إن سبب نزولها أنّ جبريل عليه السلام أبطأ أيامًا عن النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنّ النبي ودّ أن تكون زيارة جبريل له أكثر مما هو يزوره فقال لجبريل: «ألا تزورنا أكثر ممّا تزورنا» فنزلت: {ومَا نَتَنَزَّلُ إلا بِأمْرِ رَبِّكَ} إلى آخر الآية. أي إلى قوله: {نَسِيًَّا}، رواه البخاري والترمذي عن ابن عبّاس. وظاهره أنه رواية وهو أصح ما روي في سبب نزولها وأليقه بموقعها هنا. ولا يلتفت إلى غيره من الأقوال في سبب نزولها.
والمعنى: أن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقول هذا الكلام جوابًا عنه، فالنظم نظم القرآن بتقدير: وقل ما نتنزل إلاّ بأمر ربّك، أي قل يا جبريل، فكان هذا خطابًا لجبريل ليبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرآنًا. فالواو عاطفة فعل القول المحذوف على الكلام الذي قبله عطف قصة على قصة مع اختلاف المخاطب، وأمرَ الله رسوله أن يقرأها هنا، ولأنّها نزلت لتكون من القرآن. ولا شك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لجبريل عليه السلام عند انتهاء قصص الأنبياء في هذه السورة فأثبتت الآية في الموضع الذي بلغ إليه نزول القرآن. والضمير لجبريل والملائكة، أعلم الله نبيئه على لسان جبريل أن نزول الملائكة لا يقع إلاّ عن أمر الله تعالى وليس لهم اختيار في النزول ولقاء الرّسل، قال تعالى: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27]. و {نتنزل} مرادف ننزّل، وأصل التنزّل: تكلّف النزول، فأطلق ذلك على نزول الملائكة من السماء إلى الأرض لأنّه نزول نادر وخروج عن عالمهم فكأنه متكلّف. قال تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها} [القدر: 4].
واللاّم في {له} للملك، وهو ملك التصرف. والمراد ب {مَا بَينَ أيْدِينَا} ما هو أمامنا، وب {وَمَا خَلْفَنا} ما هو وراءنا، وب {ومَا بَينَ ذَلِكَ} ما كان عن أيمانهم وعن شمائلهم، لأن ما كان عن اليمين وعن الشمال هو بين الأمام والخلف. والمقصود استيعاب الجهات. ولمّا كان ذلك مخبرًا عنه بأنه ملك لله تعين أن يراد به الكائنات التي في تلك الجهات، فالكلام مجاز مرسل بعلاقة الحلول، مثل {واسأل القرية} [يوسف: 82]، فيعمّ جميع الكائنات، ويستتبع عمومَ أحوالها وتصرفاتها مثل التنزل بالوحي. ويستتبع عموم الأزمان المستقبل والماضي والحال، وقد فسر بها قوله: {ما بين أيدينا وما خَلْفنا وما بينَ ذلِكَ}. وجملة {ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} على هذا الوجه من الكلام الملقّن به جبريل جوابًا للنبي صلى الله عليه وسلم و{نسِيًّا} صيغة مبالغة من نَسيَ، أي كثيرَ النسيان أو شديده. والنسيان: الغفلة عن توقيت الأشياء بأوقاتها، وقد فسروه هنا بتارك، أي ما كان ربّك تاركك وعليه فالمبالغة منصرفة إلى طول مدّة النسيان. وفسر بمعنى شديد النسيان، فيتعين صرف المبالغة إلى جانب نسبة نفي النسيان عن الله، أي تحقيق نفي النسيان مثل المبالغة في قوله: {وما ربّك بظلام للعبيد} [فصّلت: 46] فهو هنا كناية عن إحاطة علم الله، أي إن تنزلنا بأمر الله لما هو على وفق علمه وحكمته في ذلك، فنحن لا نتنزل إلاّ بأمره. وهو لا يأمرنا بالتنزل إلاّ عند اقتضاء علمه وحكمته أن يأمرنا به.
وجوز أبو مسلم وصاحب (الكشاف): أنّ هذه الآية من تمام حكاية كلام أهل الجنة بتقدير فعل يقولون حالًا من قوله: {من كان تقيًا} [مريم: 63]، أي وما نتنزل في هذه الجنة إلاّ بأمر ربّك.. إلخ، وهو تأويل حسن. وعليه فكاف الخطاب في قوله: {بأمر ربك} خطاب كلّ قائل لمخاطبه، وهذا التجويز بناء على أنّ ما روي عن ابن عباس رأي له في تفسير الآية لا تتعيّن متابعته. وعليه فجملة {ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} من قول الله تعالى لرسوله تذييلًا لما قبله، أو هي من كلام أهل الجنّة، أي وما كان ربّنا غافلًا عن إعطاء ما وعدنا به.
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}.
جملة مستأنفة من كلام الله تعالى كما يقتضيه قوله: {فاعْبُدْهُ} إلى آخره ذيل به الكلام الذي لقنه جبريل المتضمن: أن الملائكة لا يتصرفون إلاّ عن إذن ربّهم وأنّ أحوالهم كلّها في قبضته بما يفيد عموم تصرفه تعالى في سائر الكائنات، ثمّ فرع عليه أمر الرسول عليه السلام بعبادته، فقد انتقل الخطاب إليه. وارتفع {رَبُّ السموات} على الخبرية لمبتدأ محذوف ملتزم الحذف في المقام الذي يذكر فيه أحد بأخبار وأوصاف ثم يراد تخصيصه بخبر آخر. وهذا الحذف سمّاه السكاكي بالحذف الذي اتّبِع فيه الاستعمال كقول الصولي أو ابن الزّبير بفتح الزاي وكسر الموحدة:
سأشكر عَمْرًَا إنْ تراختْ منيتي ** أياديَ لم تُمنَنْ وإنْ هيَ جلّتِ

فتىً غيرُ محجوب الغنى عن صديقه ** ولا مظهرُ الشكوى إذا النعل زلّت

والسماوات: العوالم العلوية. والأرض: العالم السفلي، وما بينهما: الأجواء والآفاق. وتلك الثلاثة تعم سائر الكائنات. والخطاب في {فَاعبُدهُ واصْطَبِر} و{هَلْ تَعْلَمُ} للنبيء صلى الله عليه وسلم وتفريع الأمر بعبادته على ذلك ظاهر المناسبة ويحصل منه التخلّص إلى التنويه بالتّوحيد وتفظيع الإشراك. والاصطبار: شدّة الصبر على الأمر الشاق، لأنّ صيغة الافتعال تَرِد لإفادة قوّة الفعل. وكان الشأن أن يعدى الاصطبار بحرف (على) كما قال تعالى: {وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه: 132] ولكنه عدي هنا باللاّم لتضمينه معنى الثّبات. أي اثبت للعبادة، لأنّ العبادة مراتب كثيرة من مجاهدة النفس، وقد يغلب بعضها بعض النّفوس فتستطيع الصبر على بعض العبادات دون بعض كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء: «هي أثقل صلاة على المنافقين» فلذلك لما أمر الله رسوله بالصبر على العبادة كلها وفيها أصناف جمّة تحتاج إلى ثبات العزيمة، نزل القائم بالعبادة منزلة المغالب لنفسه، فعدي الفعل باللاّم كما يقال: اثبت لعُدَاتك. وجملة {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} واقعة موقع التعليل للأمر بعبادته والاصطبار عليها. والسميّ هنا الأحسن أن يكون بمعنى المُسامي، أي المماثل في شؤونه كلها. فعن ابن عباس أنه فسّره بالنظير، مأخوذًا من المساماة فهو فعيل بمعنى فاعل، لكنه أخذ من المزيد كقول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع

أي المُسمع. وكما سمي تعالى الحكيم، أي المُحكم للأمور، فالسميّ هنا بمعنى المماثل في الصفات بحيث تكون المماثلة في الصفات كالمساماة. والاستفهام إنكاري، أي لا مسامي لله تعالى، أي ليس من يساميه، أي يضاهيه، موجودًا. وقيل السميّ: المماثل في الاسم. كقوله في ذكر يحيى {لم نجعل له من قبل سميًا} [مريم: 7]. والمعنى: لا تعلم له مماثلًا في اسمه الله، فإن المشركين لم يسموا شيئًا من أصنامهم الله باللاّم وإنّما يقولون للواحد منها إله، فانتفاء تسمية غيره من الموجودات المعظمة باسمه كناية عن اعتراف الناس بأن لا مماثل له في صفة الخالقية، لأنّ المشركين لم يجترئوا على أن يدعوا لآلهتهم الخالقية. قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25]. وبذلك يتمّ كون الجملة تعليلًا للأمر بإفراده بالعبادة على هذا الوجه أيضًا. وكنّي بانتفاء العلم بسميّه عن انتفاء وجود سميّ له، لأنّ العلم يستلزم وجود المعلوم، وإذا انتفى مماثله انتفى من يستحق العبادة غيره. اهـ.

.قال الشعراوي:

قوله: {تِلْكَ الجنة} [مريم: 63].
أي: التي يعطينا صور لها هي: {التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63] أي: يرثونها، فهل كان في الجنة أحد قبل هؤلاء، فَهُم يرثونه؟ الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخَلْق عرف منهم مَنْ سيؤمن باختياره، ومَنْ سيكفر باختياره، علم مَنْ سيطيع ومَنْ سيعصي، فلم يُرغِم سبحانه عباده على شيء، إنما علم ما سيكون منهم بطلاقة علمه تعالى، إلا أنه تعالى أعدَّ الجنة لتسع جميع الخَلْق إنْ أطاعوا، وأعدَّ النار لتسع جميع الخَلْق إنْ عَصَوْا، فلن يكون هناك إذن زحام ولا أزمة إسكان، إنْ دخل الناس جميعًا الجنة، أو دخلوا جميعًا النار. إذن: حينما يدخل أهلُ النارِ النارَ، أين تذهب أماكنهم التي أُعِدَّتْ لهم في الجنة؟ تذهب إلى أهل الجنة، فيرثونها بعد أنْ حُرم منها هؤلاء.
ثم يقول رب العزة سبحانه: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ}.
هنا ينتقل السياق إلى موضوع آخر، فبعد أنْ تحدَّث عن الجنة وأهلها عرض لأمر حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يحدث له حين ينزل عليه الوحي، وقلنا: إن الوحي ينزل بواسطة جبريل عليه السلام، وهو مَلَكٌ، على محمد صلى الله عليه وسلم وهو بشر. ولقاء جبريل بقانون ملكيته بمحمد صلى الله عليه وسلم بقانون بشريته لا يمكن أن يتم إلاَّ بتقارب هذيْن الجنسين وعملية تغيير لابد أنْ تطرأ على أحدهما، إما أَنْ ينزل الملَكُ على صورة بشرية، وإما أن يرتفع ببشرية الرسول إلى درجة تقرب من المَلك ليأخذ عنه، وذلك ما كان يحدث لرسول الله حين يأتيه الوحي. وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا التغيير فقال: «... فغطَّني حتى بلغ مني الجهْد...» وكان صلى الله عليه وسلم يتفصَّد جبينه عرقًا لما يحدث في جسمه من تفاعل وعمليات كيماوية، ثم حينما يُسرِّي عنه تذهب هذه الأعراض. وقد أخبر بعض الصحابة، وكان يجلس بجوار رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يضع رُكْبته على رُكْبته، فلما نزل على رسول الله الوحي قال الصحابي: شعرتُ برُكْبة رسول الله وكأنها جبل. وإذا أتاه الوحي وهودابة كانت الدابة تئط أي: تنخ من ثِقَل الوحي، وقد قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5].
إذن: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعب بعد هذا اللقاء ويشقُّ عليه، حتى يذهب إلى السيدة خديجة رضي الله عنها يقول: «زَمِّلوني زَمِّلوني» أو «دَثِّروني دَثِّروني» كأن به حمى مما لاقى من لقاء الملَك ومباشرة الوحي أولًا.
ثم أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الوحي يفتر عن رسوله ليرتاح من تعبه ومشقته، فإذا ما ارتاح وذهب عنه التعب بقيتْ له حلاوة ما نزل من الوحي، فيتشوق إليه من جديد، كما يشتاق الإنسان لمكانٍ يحبه دونه الأشواك ومصاعب الطريق، فالحب للشيء يحدث علمية كالتخدير، فلا تشعر في سبيله بالتعب.
وقلنا: لما فتر الوحي عن رسول الله شمت فيه الكفار وقالوا: إن رَبَّ محمد قد قلاه يعني: أبغضه وتركه. وهذا القول دليل على غبائهم وحماقتهم، كيف وقد كانوا بالأمس يقولون عنه: ساحر وكذاب؟ ففي البغض يتذكرون أنه له ربًا منع عنه الوحي، وحين دعاهم إلى الإيمان بهذا الرب قالوا: من أين جاء بهذا الكلام؟ لذلك، فالحق تبارك وتعالى يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 14] إذن: كانت مسألة الوحي شاقة على رسول الله. فأراد الحق سبحانه أن يعطي هؤلاء درسًا من خلال درس كونيّ مشاهد يشهد به المؤمن والكافر، هذا الأمر الكونيّ هو الزمن، وهو ينقسم إلى ليل ونهار، ولكل منهما مهمته التي خلقه الله من أجلها، كما قال سبحانه: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى} [الليل: 12]. فإياك أنْ تُغيّر مهمة الليل إلى النهار، أو مهمة النهار إلى الليل. ثم يرد عليهم قائلًا: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 14].
والمعنى: إنْ كان النهار لحركة الحياة واستبقائها، والليل للراحة والسكون، فهما آيتان متكاملتان لا مُتضادتان، وليس معنى أن يأتي الليل بسكونه أن النهار لن يأتي من بعد، بل سيأتي نهار آخر، وستستمر حركة الحياة. وكذلك الأمر إنْ فترَ الوحي عن رسول الله، فلا تظنوا أنه انقطع إلىغير رَجْعة، بل هي فترة ليرتاح فيها رسول الله، كالليل الذي ترتاحون فيه من عناء العمل في النهار، ومن هنا كانت الحكمة في أنْ يُقسم سبحانه وتعالى بالضحى والليل إذا سجى على {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3].
ونلحظ في هذا التعبير دِقّة الإعجاز في أداء القرآن، حيث قال: {مَا وَدَّعَكَ} [ضحى: 3] بكاف الخطاب؛ لأن التوديع يكون لمَنْ تحب ولمَنْ تكره، أما في القِلَى فلم يقُلْ: قَلاَك. لأن القِلَى لا يكون إلا لمَنْ تكره. ومعنى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4] الآخرة أي: الفترة الأخيرة من نزول الوحي خَيْر لك من الفترة الأولى؛ لأنها ستكون أوسع، وستأتيك بلا تَعَب ولا مشقة، وفعلًا نزلت جمهرة القرآن بعد ذلك في يُسْر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا كان الأمر في الآية التي نحن بصددها: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] فيقال: إنها نزلت حينما قال الكفار: إن ربَّ محمد قد قلاه، أو أنها نزلت بعد أن سأل كفار مكة الأسئلة الثلاثة التي تحدثنا عنها في سورة الكهف. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: «سأخبركم غدًا» لكن الوحي لم يأته مدة خمسة عشر يومًا، فشقَّ ذلك عليه وحزِنَ له فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] أي: الملائكة لا تنزل إلا بأمر، ولا تغيب إلا بأمر.
ثم يقول الحق سبحانه تعالى: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك} [مريم: 64].
قوله تعالى: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} [مريم: 64] أي: الذي أمامنا {وَمَا خَلْفَنَا} [مريم: 64] أي: في الخلف {وَمَا بَيْنَ ذلك} [مريم: 64] أي: ما بين الأمام والخلف، فماذا بين الأمام والخلف؟ ليس بين الأمام والخلف إلا أنت. فسبحانه وتعالى المالك، الذي له الملك والمملوك، وله المكان والمكين، وله الزمان والزمين. وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] هل يرسل الحق تبارك وتعالى رسولًا، ثم ينساه هكذا دون إمداد وتأييد؟ فسبحانه تنزَّه عن الغفلة وعن النيسان. ثم يقول الحق سبحانه: {رَّبُّ السماوات والأرض} أولًا: ما علاقة قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] بقوله تعالى في هذه الآية: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم: 65]؟ قالوا: لأن هذا الكون العظيم بسمائه وأرضه، وما فيه من هندسة التكوين وإبداع الخلق قائم بقيومية الله تعالى عليه، كما قال سبحانه: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41]. فلا تظن أن الكون قائم على قانون يُديره، بل على القيومية القائمة على كل أمر من أمور الكون، والحق تبارك وتعالى لا تأخذه سنة ولا نوم. فما دام الأمر كذلك، وأنه تعالى يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا، وما بين ذلك، وأنه تعالى قيُّوم لا ينسى ولا يغفل وبه يقوم الكون. فهو إذن يستحق العبادة والطاعة فيما أمر، وقد أعطاك قبل أن يُكلّفك عطاء لا تستطيع أنت أن تفعله لنفسك، ثم تركك تربع في هذا النعيم خمس عشرة سنة دون أنْ يُكلِّفك بشيء من العبادات.
لذلك هنا يقول تعالى: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65] وقد أكّد القرآن الكريم في آيات كثيرة مسألة الوحدانية، وأنه رَبٌّ واحد فقال: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم: 65]. وقال: {رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2]. وقال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} [الشعراء: 26]. لأن القدماء، ومنهم مثلًا قدماء المصريين كانوا يجعلون ربًا للسماء، وربًا للأرض، وربًا للجو، وربًا للأموات، وربًا للزرع.... إلخ. وما دام هو سبحانه رب كل شيء فقد رتب العبادة على الربوبية. والعبادة: طاعة معبود فيما أمر وفيما نهى، وكيف لا نطيع الله ونحن خَلْقه وصَنْعته، ونأكل رزقه، ونتقلب في نعمه؟ وفي ريفنا يقول الرجل لولده المتمرد عليه: (مَنْ يأكل لقمتي يسمع كلمتي).
ولابُدَّ أن نعلم أن الله تعالى له الكمال المطلق قبل أنْ يخلق الخَلْق وبصفات الكمال خلق، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية. فإن قلتَ: فلماذا إذن يُكلِّف الخَلْق بالأمر والنهي؟ نقول: كلَّف الله الخَلْق لتستمر حركة الحياة وتتساند الجهود ولا تتصادم، فيحدث في حياتهم الارتقاء ويسعدوا بها، إنما لو تركهم وأهواءهم لَفسدتِ الحياة، فأنت تبني وغيرك يهدم. لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به». والحق تبارك وتعالى يقول: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71].
إذن: التشريعات جُعلَتْ لصالحنا نحن: {فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ} [مريم: 65] لأن العبادة فيها مشقة، فلابد لها من صبر؛ لأنها تأمرك بأشياء يشقُّ عليك أنْ تفعلها، وينهاك عَنْ أشياء يشقُّ عليك أن تتركها لأنك ألِفْتها. والصبر يكون منا جميعًا، يصبر كُلٌّ مِنَّا على الآخر؛ لأننا أبناء أغيار، فإن صبرتَ على الأذى صبر الناس عليك إنْ حدث منك إيذاء لهم؛ لذلك يقول تعالى: {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3]. والحق سبحانه وتعالى يُعلِّمنا: إن أذنب أحد في حَقْك، أو أساء إليك فاغفر له كما تحب أن أغفر لك ذنبك، واعفوَ عن سيئتك. يقول تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22]. ولا تظن أن صبرك على أذى الآخرين أو غفرانك لهم تطوُّع من عندك؛ لأنه لن يضيع عليك عند الله، وستُردُّ لك في سيئة تُغفَر لك. حتى مَنْ فُضِح مثلًا أو ادُعي عليه ظُلْمًا لا يضيعها الله، بل يدّخرها له في فضيحة سترها عليه، فمَنْ فُضِح بما لم يفعل، سُتر عليه ما فعل.
وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]؟ سبق أن تكلمنا في معنى (السَّميّ) وقد اختلف العلماء في معناها، قالوا: السَّميُّ: الذي يُساميك، أي: أنت تسمو وهو يسمو عليك، أو السَّميّ: النظير والمثيل. والحق سبحانه وتعالى ليس له سميٌّ يُساميه في صفات الكمال، وليس له نظير أو مثيل أو شبيه، بدليل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 14].
وللسميِّ معنى آخر أوضحناه في قصة يحيى، حيث قال تعالى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: 7] أي: لم يسبق أنْ تسمَّى أحد بهذا الاسم. وكذلك الحق تبارك وتعالى لم يتسمَّ أحدٌ باسمه، لا قبل هذه الآية، ولا بعد أنْ أطلقها رسول الله تحدّيًا بين الكفار والملاحدة الذين يتجرؤون على الله. فلماذا لم يجرؤ أحد من هؤلاء أنْ يُسمى ولده الله؟ الحقيقة أن هؤلاء وإنْ كانوا كفارًا وملاحدة إلا أنهم في قرارة أنفسهم يؤمنون بالله، ويعترفون بوجوده، ويخافون من عاقبة هذه التسمية، ولا يأمنون أنْ يصيبهم السوء بسببها.
إذن: لم تحدث، ولم يجرؤ أحد عليها؛ لأن الله تعالى قالها وأعلنها تحديًا، وإذا قال الله تعالى، ملَكَ اختيار الخَلْق، وعلم أنهم لن يجرؤوا على هذه الفعلة. اهـ.